نفسية المواطن المغربي تستدعي المسح الإحصائي والإصلاح الاستعجالي

في ظل تزايد التحديات المرتبطة بالصحة النفسية في المغرب، تصاعدت المطالب البرلمانية لإجراء مسح وطني شامل يهدف إلى تقييم مدى انتشار الاضطرابات النفسية بين المواطنين. ويؤكد خبراء علم النفس أن هذه الخطوة ستكون محورية في وضع سياسات علاجية فعالة تستند إلى بيانات دقيقة، بدل الاعتماد على تقديرات غير محلية أو دراسات قديمة لا تعكس الواقع الحالي.

ويرى المختصون أن تطوير خدمات نفسية متكاملة، تشمل الدعم العلاجي والوقاية، بات ضرورة ملحة، خاصة مع تزايد الضغوط النفسية في المجتمع، وارتفاع الحاجة إلى تأطير قانوني وتنظيمي يضمن ولوجًا عادلًا وسهلًا إلى هذه الخدمات.

في هذا السياق، يشدد الخبراء على أهمية تعزيز الموارد البشرية والبنية التحتية الصحية، مع اعتماد مقاربة شاملة تدمج العلاجات الدوائية وغير الدوائية، لمواكبة التحولات الاجتماعية والنفسية التي يشهدها المغرب.

وفي هذا الإطار، قال عادل الحساني، خبير في علم النفس الاجتماعي، إن “هذا المسح يمكن أن يعدّ خطوة أساسية إذا تم وفق الضوابط العلمية اللازمة وأنجزته كفاءات مهنية، إذ سيمكن من فهم حجم الضغوط النفسية وانعكاساتها على الأطفال والسلوك المهني، فضلاً عن تحديد مدى الحاجة إلى الخدمات العلاجية”.

وأضاف الحساني، ضمن تصريح لهسبريس، أن هناك حاجة ملحة لاعتماد إطار تشريعي أكثر مرونة، يواكب التطورات المتسارعة في مجال الصحة النفسية ويسمح بإنشاء خدمات نفسية فعالة وسهلة الولوج دون وصم أو تمييز.

وأشار إلى أنه “عالميًا، من الطبيعي أن يمر أي شخص بفترة اكتئاب تمتد لأسبوع أو أسبوعين، مما يجعل توفير خدمات نفسية متاحة لكل المواطنين أمرًا ضروريًا. الصحة النفسية ليست ترفًا، بل حاجة أساسية تشبه في أهميتها الأوكسجين داخل المستشفيات. لذا، فإن توفير الموارد البشرية الكافية، من أخصائيين نفسيين وعاملين اجتماعيين وأطباء نفسيين، أصبح أمرًا لا يقبل التأجيل. كما أن تطوير نظام منظم يضمن الولوج العادل إلى هذه الخدمات بات ضرورة حتمية”.

العلاج الدوائي وحده لا يكفي

الحساني شدد على أنه “في غياب التأطير القانوني، غالبًا ما يصبح الدواء هو الحل الأول والأخير للمرضى النفسيين. في حين إن الحالات التي تتطلب علاجًا دوائيًا، مثل اضطراب ثنائي القطب، تبقى قليلة مقارنة بعدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى علاج نفسي غير دوائي. في المغرب، تتوفر الخدمات الدوائية، لكن الإشكال الحقيقي يكمن في غياب خدمات علاجية نفسية متكاملة تساعد المرضى قبل تفاقم حالاتهم”.

وأوضح الخبير في علم النفس الاجتماعي أنه منذ جائحة كورونا، بدأ المغاربة ينفتحون بشكل أكبر على فكرة العلاج النفسي، ويدركون دوره في تحقيق التوازن الحياتي، “غير أن البنية التحتية الحالية لا تزال عاجزة عن استيعاب الطلب المتزايد، خصوصًا في ظل وضعية المستشفيات العقلية المتردية كما هو الحال في جهة سوس ـــ ماسة التي لا تتوفر إلا على مستشفى وحيد للحالات المستعصية”.

إصلاحات ضرورية للخدمات النفسية

الحساني أكد ضرورة “تعزيز الموارد البشرية ووضع نظام يشبه مستشفيات القرب، يتيح مرونة في دخول وخروج المرضى، بما يتناسب مع طبيعة الأمراض النفسية التي تتطلب متابعة دائمة. كما يجب إرساء آلية تنسيق بين الأخصائيين النفسيين والأطباء النفسيين والأخصائيين الاجتماعيين، لضمان تكامل الخدمات العلاجية، مثلما حدث في تجربة الزلزال، حيث كان التنسيق بين هذه التخصصات الثلاثة فعالًا وضروريًا”.

وخلص المتحدث إلى أن “الصحة النفسية في المغرب في حاجة إلى اهتمام جدي وإصلاحات مستعجلة، تبدأ من إجراء مسح إحصائي شامل، وتمر عبر توفير خدمات نفسية غير دوائية، وصولًا إلى بناء نظام صحي نفسي متكامل يحترم كرامة المرضى ويسمح لهم بالاستفادة من رعاية صحية لائقة”.

تقييم الاضطرابات

من جانبها، قالت ريم عكراش، أخصائية نفسية، إن “البيانات والإحصائيات الدقيقة حجر الأساس لأي سياسة صحية فعالة، غير أن الدراسات المتوفرة حول الصحة النفسية بالمغرب قديمة ولا تعكس الوضع الحالي بدقة”.

وصرحت عكراش لهسبريس بأنه “في كثير من الأحيان، يتم إسقاط النسب العالمية على الواقع المغربي دون الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المجتمعية والثقافية التي تؤثر على انتشار اضطرابات مثل الاكتئاب والفصام وغيرها”.

وأعطت المثال بمجال الإدمان، قائلة: “تظل الدراسات قليلة جدًا، مما يجعل من الصعب تقييم حجم الظاهرة ووضع استراتيجيات تدخل فعالة. لذا، فإن إجراء مسح وطني شامل للصحة النفسية سيشكل خطوة ضرورية لمعرفة الواقع الحقيقي لهذه الاضطرابات، مما سيمكن من بناء سياسات عمومية تستجيب لحاجيات المواطنين بشكل أدق”.

ونبهت الأخصائية النفسية ذاتها إلى أنه “رغم التحسن الذي شهدته بعض جوانب الصحة النفسية بفضل زيادة الوعي والتحسيس، إلا أن الحاجة لا تزال ماسة لمزيد من العمل، خاصة مع انتشار الظواهر النفسية في أوساط الشباب بفعل تأثير مواقع التواصل الاجتماعي”.

وشدد عكراش على أنه “من أجل تعزيز الاستجابة لهذه التحديات، يجب إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات العمومية بشكل واضح، بحيث لا يقتصر التحسيس والوعي على حملات ظرفية، بل يكون جزءًا من استراتيجية مستدامة. كما أن تطوير الموارد البشرية في هذا المجال أمر بالغ الأهمية، من خلال تكوين متخصص في التعامل مع الاضطرابات النفسية، عوض الاكتفاء بتدريبات عامة لا توفر المهارات الكافية للعلاج والتدخل الفعّال”.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *