إحياء مسار الدرب الأحمر| رحلة إلى رمضان القاهرة ما بين “موكب القلعة” وفول “قطة”

إحياء مسار الدرب الأحمر| رحلة إلى رمضان القاهرة ما بين “موكب القلعة” وفول “قطة”

-قصة- صور: مارينا ميلاد

بعد عدة قرون- في المكان نفسه والذي بات اسمه “باب الوزير”، يخرج الصوت من التلفاز عاليًا: “غدًا أول أيام شهر رمضان”، فيزين محمد علي مطعمه الذي يقدم “الفول والطعمية” ويفرش طاولاته أمام مسجد ومدرسة أم السلطان شعبان التي مَر عليها الموكب في ذلك اليوم. فيستعد لأول وجبة سحور وبداية أفضل مواسمه.

وقد بدا هذا المطعم مميزًا عن أمثاله بالمنطقة. فهو يتوسط المسار السياحي بالدرب الأحمر، ذلك المسار الرابط بين المباني التاريخية وأسواق الحرف اليدوية، والذي عَمل على ترميم مساجده وتطوير محاله مشروع مؤسسة الأغاخان ووزارة السياحة والآثار بدعم وتمويل الاتحاد الأوروبي.

ولمسافة تمتد بطول 2 كيلومتر تقريبًا، يسحب ذلك المسار زائره إلى عوالم أخرى. وتتجلى في كل زاوية منها خلال هذه الأيام، طقوس رمضان مثلما كانت منذ قرون.

“يا أتباع أفضل خلق الله! صوموا، صوموا”، مرة بعد مرة، تردد الفرق الهتاف بصوت عالِ وهي تجوب كل عطفة بالقاهرة لتبشر سكانها بحلول رمضان، بعد أن وصل خبر رؤية الهلال إلى القاضي، فتتلألأ الجوامع بالأنوار، وتُعلق المصابيح عند مداخلها وأعلى مآذنها.

ثم يملأ الناس الشوارع، يسهرون ويتغنون داخل الأزقة التي يحط بها سور القاهرة الفاطمية، السور الذي شيد ثلاث مرات، الأولى من الطوب اللبن على يد مؤسسها جوهر الصقلي (قائد جيوش الفاطميين)، والثانية من بدرالدين الجمالي (وزير الخليفة الفاطمي المستنصر بالله)، والثالثة في زمن صلاح الدين الأيوبي الذي مدده إلى القلعة ثم إلى الفسطاط ليحيط بالعاصمة كلها.

وبقي من سور صلاح الدين جزءا كبيرًا، تتحرك من عنده الآن السيارات الكهربائية المكشوفة “جولف كار” والتي وفرها مشروع المسار السياحي ليستقلها الزوار نحو المحطات تباعًا.

تنعطف السيارة ناحية الطرق المتداخلة المتعرجة، فيرقب ” ليوناردو”، وهو داخلها، تلك اللافتات البُنية الملصقة على جدران الحواري لتشير إلى هذه المحطات المفترض أن يسلكها بحي الدرب الأحمر، الحي الذي يمثل المحور الشمالي الجنوبي للمدينة التاريخية. فمثلما كان يمر عبره مواكب السلاطين والمهرجانات الشعبية من القلعة إلى الأسواق والقصور السكنية، يمر عليه ” ليوناردو” ومن معه الآن، حيث صُمم المسار ليكون على طريق تلك المواكب.

فيقول الإيطالي صاحب الـ55عامًا، “ليست المرة الأولى التي أزور فيها الدرب الأحمر والقاهرة التاريخية، لكنها لأول مرة تكون منظمة بهذا الشكل.. فدخلت إلى أماكن لم أكن رأيتها من قبل”.

وأكثر ما أغراه لزيارة القاهرة خلال هذه الفترة هو شهر رمضان، الذي تخطف زينته بصره وهو يمضي بالطريق، فيكمل وهو يلتقط صور لها: “هذه الأجواء أعتقد أنها غير موجودة إلا في مصر، خاصة في مثل هذه المناطق”.

وما يعتقده الرجل، هو نفسه ما تبنته وزارة السياحة والآثار في حملتها الجديدة “مصر روحها في رمضان” لمدة شهر ونصف، وهدفها جذب الآلاف من أمثال “ليناردو” للترويج للسياحة خلال هذا الشهر ومعايشة طقوسه.

فلما تقترب ساعة الإفطار، “تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها”، كما يصفها ريتشارد بيرتون (الرحالة الإيرلندي) الذي زارها عام 1853. “فيطل الناس من المشربيات والشرفات ليرقبوا اقتراب ساعة خلاصهم”.

في تلك الساعة الآن، يقف محمد علي الشهير بـ”قطة” أمام مطعمه يوزع التمر والعصائر. وهذا المطعم الذي يقدم “الفول والطعمية” هو الأول بشارعه، حيث فتحه جده عام 1947. ولم تتبدل ملامحه منذ هذا الوقت إلا العام الماضي، حين جاءه أفراد ومهندسون من مؤسسة أغاخان ليبلغوه “بأهمية ترميمه وتطويره كونه واقعًا على طريق المسار السياحي”.

ويا حسن حظه لاختيار جده هذا المكان !، لم يفكر “قطة” في الأمر مرتين، فيقول: “نريد أن نكون مثل شارع المعز، يأتينا سياح وزوار من كل مكان، خاصة في رمضان”.. يدق على الطاولة ويشير إلى الأماكن حوله، ثم يكمل حديثه: “هنا آثار كثيرة ومهمة مثل المعز وربما أكثر!”.

فلم يمانع أن يغُلق مطعمه قرابة الشهرين، ليتفاجئ بعدها بهيئته الجديدة، حيث الحجر الهاشمي ومظلات وأبواب خشبية على الطراز الإسلامي بعد أن كانت مصنوعة من الصاج مثل بقية المحال. ولم يجد شيئا ظل على حاله سوى الحوائط المصنوعة من السيراميك الأندلسي الذي ركبه ليجعلها شبيهة بتلك الموجودة بـ”المسجد الأزرق” المجاور له، وهو مسجد أق سنقر (أحد مماليك الناصر محمد بن قلاوون)، ذو الصحن المكشوف المحيط به أربعة أروقة وثلاثة مداخل ويغطي جدرانه الخزف الأزرق.

فيقول “قطة” الذي ولد وسَكن بالمنطقة نفسها: “أنا مرتبط بكل شئ هنا، وفرحتي بالمطعم ليس فقط لأن كل السياح الذين يأتون باب الوزير صاروا زبائني، إنما لأنه صار يليق بالأماكن الموجود حولها”.

وحين مالت الشمس واختفى قرصها وراء قباب تلك الأماكن والجوامع، تردد صوت مدوِ ذات يوم غير معلوم زمنه، صوت فزع له الناس التي كانت إما تصلي أو تأكل في ساعة الإفطار بأول أيام رمضان. فهرعوا ليتبينوا الخبر وسرعان ما انتشر اعتقادهم أنه “للإعلان عن تناول الطعام”، والحقيقة أنها كانت تجربة مدافع جديدة. لكن تحولت الصدفة إلى عادة، وصار هناك مدفع للإفطار بالقلعة.

وعندما يضرب افتراضيًا الآن على التلفاز أو الراديو، يكون عبد الرحمن سمير ، آخر من يغلق بشارع باب الوزير بعد انصراف آخر زبائنه. وفي طريقه، اعتاد أن يرمقه الجميع بنظرة “يا له من رجل محظوظ!” باختيار بقالته للتجديد في المشروع، بل ويوقفونه أحيانًا ليسألوه “إن كان هناك محال أخرى سيتم تجديدها ضمن المسار؟!”.

لا يجد “عبدالرحمن” (37 سنة) إجابات عليهم، فهو لا يعلم من الأساس سبب اختيار محله، “لكنها فرصة وجاءته”، كما يقول. لكن اللواء أحمد حلمي (المنسق العام للمشروعات بمؤسسة أغاخان) يذكر أسباب الاختيار “مثل الموقع وأن يكون المحل والعقار لهما وضع قانوني صحيح، وذا مواصفات صالحة لعملية الترميم وغير آيل للسقوط”.

لخمسين يوما؛ عمًل فريق المشروع ببقالة “عبدالرحمن”، لم يفارقهم خلالهم وظل يتابعهم يوما بعد يوم، رغم أنه أجر محلا آخرا مجاورا ليعرض به بضاعته. فيحكي وهو يقلب نظره بالبقالة ويشير إلى سقفها الخشبي وأرضيتها الجديدة: “غيروها من أولها إلى آخرها”.

فبدل المشروع ملامح بقالة “عبدالرحمن” التي تجاوزت السبعين عامًا، لتصبح مميزة في وجه الزائرين بمحطتهم الحادية عشر بالمسار عند بيت الرزاز، أحد أجمل المنازل المملوكية بالقرن الخامس عشر، والذي كان يسكنه تاجر مثل “عبدالرحمن” يدعى أحمد كتخدا الرزاز.

وبالنسبة لعائلة الرزاز وغيرها من عائلات المنطقة، كان نهار رمضان ما هو إلا “دروس وعظ في المساجد أو عمل أو نوم في أغلب الأحوال”، كما يذكر آدم فرانسوا جومار (عالم الآثار ورسام الخرائط الفرنسي)، أما في المساء وحين تضاء الشوارع ويملأها الصخب؛ “يجتمعون في أبهى ملابس، ويأكلون بلذة الحلوى وينغمسون في كل أنواع التسلية”.

وما بين الليل والنهار، تضطرب الحالة المزاجية لهم، كما يرى وليام لين (المستشرق الإنجليزي)، “فيكونون نكدي المزاج صباحًا، وودودين محبين بشكل غير عادي ليلا، ويرتاد بعضهم من متوسطي الحال، المقاهي ليعقدون لقاءات اجتماعية أو يستمعون إلى رواة القصص الشعبية، وحولهم، تخرج أصوات حلقات الذكر من نوافذ المنازل طوال هذا الشهر”.

ولا يختلف الأمر عند محمد الحداد (صانع التحف والانتيكات) عن أسلافه بالمنطقة، فينهي صلاة التراويح ويذهب للمقهى الشعبي بالمنطقة، ثم يعود ويفتح محله المليء بتماثيل وديكورات رمضان التي صنع أغلبها في ورشته.

يلقِ “الحداد” السلام على أصحاب المحال الجالسين أمامها في طريقه، الجميع يعرفه، فقد درب حوالي 30 شخصا منهم على صناعة التحف والانتيكات خلال ورش تدريبية ضمن مشروع التطوير بالمسار، بعضهم فتح محال، وبعضهم زاد من منتجاته وطورها، وكل ذلك جعل “الحداد”، كما يتحدث، فخورا بما فعله: “هل هناك أهم من فتح باب رزق؟!”.

أغلب تلك المنتجات التي عَمل عليها “الحداد” مستلهمة من العمارة الإسلامية المحيطة به، وأهمها جامع المارداني، المحطة الثانية عشر بالمسار، والذي تم افتتاحه العام الماضي بعد ترميمه على طريقة المعلم ابن السيوفي (كبير مهندسين السلطان الناصر محمد) ليعود كما كان شكله حين بناه الأمير المملوكي الطنبغا المارداني عام 1340 بنفس تفاصيله المعمارية كالوزرات الرخامية والأعمدة الجراينتية وتيجان الأعمدة التى أعيد استخدامها فى الجامع وتعود الى العصر الرومانى.

يمتلأ جامع المارداني على آخره مع كل صلاة، بالأخص صلاة التراويح ثم الفجر، مثلما كان وقت الأمير الطنبغا المارداني تمامًا، عندما كان “يدور المسحرّون كل ليلة، يطلقون المدائح أمام منزل كل مسلم قادر على مجازاتهم، ويرافق كل واحد صبي يحمل قنديلين في إطار من أعواد النخيل”، كما يذكر وليام لين (المستشرق الإنجليزي).

“فتطل النساء من خلف المشربيات لتلقِ له خمس فضات أو قرشا أو أكثر في قطعة من الورق بعد أن تضرم النار في الورقة حتى يرى مكان سقوطها.. فيلتقطها المسحّر ثم يتلو حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة الفاتحة وقصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها كقصة (الضرتّين) وشجارهما”.

ولم يعد المسحراتي موجودًا كما كان، وإن حضر أحيانا، فلا يعرف كل بيت وأسماء ساكنيه، لكن طالما أحبت شيماء إسماعيل، الساكنة بالدرب، إن صادفته، أن تُذكره بأسماء أولادها. ولا تنم بعدها إلا ساعات قليلة ليلا ثم تذهب إلى محلها مع بداية الصباح، فترص على الأرفف الخشبية خارجه، التحف التي صنعتها وتأخذ أشكال الفوانيس أو الهلال.

فكانت “شيماء” تهوى طول الوقت إعادة التدوير وعملت بها منتجات لبعض جيرانها حتى حلت لحظة غيرت حياتها. جاءتها فرصة عمل وتدريب مع مؤسسة أغاخان. وقتها تعلمت ما تهواه كـ”حرفة” واشترت معداتها بالتقسيط، ثم دعمتها المؤسسة حتى استأجرت هذا المحل، الذي تصفه بأنه: “حِلم لها”.

لعب الحظ لصالحها مرة ثانية حين أصبح محلها وسط المسار السياحي ووقع عليه الاختيار للتطوير. فتحكي أنها كانت تضع “مشمع” مهترئ على جدرانه قبل أن تُرمم وتدهن الحوائط هكذا.

والفانوس المعلق أمام محل وبيت “شيماء” وفوق كل بيوت المسار، يشبه ذلك الذي علقه ساكنو الدرب ليستقبلوا به الخليفة المعز لدين الله الفاطمي حين دخل إلى القاهرة ليلا يوم الخامس من رمضان، وهي أشهر الروايات حول صلة الفانوس بهذا الشهر.

وفي آخر محطات المسار، حيث شارع الخيامية، تكتظ الحارات بالفوانيس والزينة كما تكتظ بالزبائن. وأسفل سقفها الخشبي المميز، كان انتباه أحمد جمعة منصبًُا على بيع تلك الفوانيس المصنوعة من الخيامية بدلا من النحاس والزجاج المألوف منذ زمن الخليفة.

لم يكن الأمر كذلك عند “جمعة” قبل سنوات. فيحكي الرجل البالغ 47 عامًا قضى نصفهم تقريبا بهذه المهنة: “أنه حين تلق تدريبًا مع مشروع مؤسسة أغا خان بدعم الإتحاد الأوروبي على يد خبراء من إيطاليا وفرنسا؛ صَنع منتجات يدوية عالية الجودة وشارك في معرض بباريس، لكن بمرور الوقت، ضعفت السياحة وانصرف عماله إلى التكاتك، فلم يكن أمامه خيارًا سوى العمل بالزينة الجاهزة المطبوعة”.

فيتحدث ويبدو غير مقتنع أو مرتاح تمامًا لما يقوله: “العمل اليدوي شاق ومكلف، ويستغرق وقت أطول، ولن يأتِ بهمه”.

يسير “جمعة” حسب ما يفرضه سوقه وتجاره، على عكس حاله في زمن العثمانيين، عندما كان من أهم أسواق المدينة التجارية وأعلاها صيتًا بمنتجاته اليدوية بعد أن أسسه الأمير رضوان بك الفقاري في القرن الـ17، فسُمي بـ”قصبة رضوان بك”.

ومن بعده، ينتهي المسار عند باب زويلة الذي يكشف أعلى مأذنته كل المحطات السابقة التي يفوق عمرها 700 عامًا وعن أعمال جديدة تنتظر المِنح والمشاريع المقبلة كمسجد أبو حريبة التي رممت واجهته فقط بينما يبقى داخله مترقبًا.

ثم يعود الزائرون إلى نقطة البداية مرة أخرى، فيصعدون الممر نحو حديقة الأزهر، ويبدو الأمر وكأنهم يعودون إلى عالم آخر. وعلى ضوء الغروب الهادئ، كان يفترش نجيلتها عشرات الأسر لتناول وجبة الإفطار مثلما كان يفعل من قبلهم “على أرض بيوتهم في فنائها المكشوف أو أمام أبوابها، مع دعوة عابري السبيل إلى مشاركتهم الطعام”، كما لاحظهم الفرنسي دي فيلامون أثناء زيارته إلى مصر في القرن السادس عشر خلال شهر رمضان.

مصادر المعلومات التاريخية:

– المستشرق الإنجليزي إدوارد وليام لين- دراسته بعنوان “عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم” بين عامي 1833-1835.

– توثيق علماء الحملة الفرنسية في مصر (1798-1801).

-موقع مسار الدرب الأحمر.

اقرأ أيضا:

“إحنا المرسومين على الجنيه”.. مدينة الموتى تعود إلى الحياة

خريج كلية الإعلام جامعة الإسكندرية عام 2012، متخصص في الصحافة التقنية والترفيهية، شغوف بمتابعة أحدث الابتكارات وقصص الإبداع في عالم التكنولوجيا والفنون.