
08:29 م
الأحد 09 مارس 2025
مقال بقلم.أد..محمد محمود الجُبَّة
وعضو مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونيَّة
في عالمٍ مُتسارعِ التغيُّر، باتَ استثمارُ الطاقات البشرية عنصرًا حاسمًا في نهضة الأمم وتقدُّم المجتمعات، وقد سبق الإسلامُ النُّظُمَ الحديثةَ في إرساء دعائم هذا الاستثمار؛ إذ حثَّ على تنمية الإنسان فكريًّا وروحيًّا ومهنيًّا، ليكون عنصرًا فاعلًا في عمارة الأرض وبناء الحضارة.
وينطلق مفهومُ استثمار الطاقات البشرية في الإسلام من إدراك أنَّ الإنسان هو محور البناء والتغيير، وأنَّ لكلِّ فردٍ دورًا في الإسهام في مجتمعه وفق قدراته ومهاراته، وقد أكّد القرآن الكريم والسُّنة النبوية على أهمية العمل والاجتهاد، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: 105].
ولا يقتصر الإسلامُ على اعتبار العمل وسيلةً لكسب الرزق فحسب، بل يجعله عبادةً يُثاب عليها الإنسانُ إذا اقترنت بالنيَّة الصالحة، كما دعا الإسلامُ إلى الإتقان والإبداع في العمل، فعن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» [رواه الطبراني].
ويعدُّ التعليمُ من أبرز وسائل تنمية الطاقات البشرية، وقد حثَّ الإسلام على طلب العلم بوصفه مفتاحًا للرقي والتقدُّم، إذ قال النبي ﷺ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» [رواه ابنُ ماجه] كما شدَّد الإسلامُ على أهميَّة التدريب والتأهيل لإعداد الأفراد وتمكينهم من أداء أدوارهم بفاعلية.
كما شجَّع الإسلامُ على الإنتاج والعمل الحرِّ، واعتبر التجارة والزراعة والصناعة من الأعمال التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع، فقد امتهن الأنبياءُ المهنَ المختلفة، وكان النبيُّ ﷺ تاجرًا قبل بعثته، مما يعكس قيمةَ العمل الحر والاستقلال الاقتصادي في الإسلام.
ويُمثِّل الشبابُ العمودَ الفقريَّ لأيِّ مجتمعٍ يسعى إلى التقدُّم؛ ولذلك حرص الإسلام على توجيه هذه الفئة نحو العمل والإبداع والاستقامة، وقد كان للنبي ﷺ اهتمامٌ خاصٌّ بالشباب، حيث قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: … وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ الله» [متَّفق عليه] ، مما يعكس أهمية استثمار طاقات الشباب في البناء والتطوير لانضباطه بضابط الشرع الشريف وعدم ضياع وقته فيما لا ينفع؛ لذا، فإنَّ تأهيل الشباب بالعلوم والمعرفة، وتوفير الفرص لهم للإبداع والابتكار، يُعدُّ من أهمِّ وسائل تحقيق التنمية المستدامة.
ولم يَغفل الإسلامُ عن أهمية الاستثمار في جميع فئات المجتمع، حيث حثَّ على دعم الفقراء والمحتاجين من خلال التكافل الاجتماعي، وأقرَّ نظامَ الوقف الذي يُسهم في تمويل المشاريع التعليميَّة والصحيَّة والاقتصاديَّة، مما يعزِّز التنمية البشريَّة المستدامة.
ولم يكن الإسلامُ يومًا عائقًا أمام مشاركة المرأة في تنمية المجتمع، بل منحها دورًا أساسيًّا في مختلف المجالات، بدءًا من الأسرة والتعليم، وصولًا إلى العمل والإنتاج، فقد كانت النساء في العهد النبوي يعملن في التجارة والطبِّ والزراعة، كما أثبتن قدرتهنَّ على الإسهام في الحياة العامَّة مع الحفاظ على القيم الأخلاقية، ومن هذا المنطلق، فإنَّ تمكين المرأة وتأهيلها علميًّا ومهنيًّا يُعدُّ جزءًا من استثمار الطاقات البشريَّة، مما يحقق التوازن الاجتماعي والتنمية الشاملة.
ويُولي الإسلامُ اهتمامًا خاصًّا بالقيادة والإدارة الحكيمة للموارد البشريَّة، إذ يضع معاييرَ واضحةً لاختيار القادة والمسؤولين القادرين على توجيه الطاقات واستثمارها بالشكل الأمثل، فقد قال النبي ﷺ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» [رواه البخاري]، مما يدلُّ على أنَّ نجاح أيِّ مجتمعٍ يرتبط بمدى كفاءة قيادته في توظيف الطاقات البشرية واستثمارها في بناء مستقبلٍ واعد، فالإدارة الرشيدة التي تعتمد على العدل والتخطيط والتطوير المستمر تُعدُّ من أهمِّ العوامل في تحقيق نهضة الأمم.
ولم يقف الإسلامُ عند حدود التشجيع على العمل التقليدي، بل فتح آفاقًا واسعةً لاستثمار الطاقات البشرية في كل ما يعود بالنفع على المجتمع، بما في ذلك العلوم والتكنولوجيا، وقد أرسى الإسلام قاعدةً ثابتةً مفادها أن (الحكمة ضالَّةُ المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق بها)، مما يحفّز على البحث والابتكار والاستفادة من التقدم العلمي في مختلف المجالات؛ لذلك، فإنَّ دعم البحث العلمي، وتشجيع ريادة الأعمال القائمة على التكنولوجيا، يُسهمان في تحقيق التقدُّم والازدهار وفق رؤيةٍ إسلاميَّةٍ متوازنةٍ تجمع بين القيم الأخلاقيَّة والتطور الحضاري.
وختامًا، فإنَّ استثمار الطاقات البشريَّة من منظور الإسلام ليس مجردَ خيار، بل هو واجبٌ شرعيٌّ وضرورةٌ حضاريَّةٌ، فمن خلال العمل المتقن، والتعليم الجادِّ، وريادة الأعمال، والتكافل الاجتماعي، يتحقَّق بناءُ مجتمعٍ قويٍّ قادرٍ على مواجهة التحديات وتحقيق التنمية المستدامة، وهذا ما يجعل الإسلام نموذجًا متكاملًا في استثمار الطاقات البشريَّة لخدمة الإنسان والمجتمع.
تعليقات