يظل حمدين صباحي قيمة كبيرة وشأنًا عامًا، يتفق معه الكثيرون ويختلف معه كُثُر، ويظل صباحي رقمًا مهمًا في الحياة السياسية، صنعه بعطائه وحضوره، وبثمن دفعه عن طيب خاطر على مدى نصف قرن. فضيلة المراجعة أو الاعتذار لا يقوم بها إلا كبير، ولا يُقبل عليها إلا ناضج. لذلك اندهشت من مدّ الهجوم عليه، الذي أخذ المنحى الشخصي الفجّ والمبتذل أحيانًا، رغم محاولات فاشلة تدثرت بثوب الخلاف السياسي. وأنا أتكلم عن أشخاص يصفون أنفسهم بالنخبة، وليسوا من هُجَّامي اللجان الإلكترونية المكلّفين.
ولست أفهم أن يكون اعتذاره عن موقف سياسي عام عاصره وشارك فيه مع آلاف غيره من مختلف التيارات السياسية مناسبةً للكيد الأيديولوجي أو محاسبته على أفكاره، من أول سياسات عبد الناصر وهزيمة ٦٧، مرورًا بتحالفه مع الإخوان، وانتهاءً بقبول فكرة الحوار. ثم تُستكمل المفارقة بدخول رموز من الإخوان على الخط، فيحسبونه داعمًا للنظام الذي أسقط حكمهم، وتابعًا لنظام عبد الناصر الذي عذّب قياداتهم في السجون!
حمدين بالطبع ليس منزّهًا عن النقد طالما تصدّى للعمل العام وتقدّم صفوف الزعامة في جيله، وهناك بين الناصريين من اختلف معه وما زال، وهو يقبل ذلك. ومن الطبيعي أيضًا أن يملك كل صاحب انتماء سياسي من غير تياره الكثير من أسباب الاختلاف معه، وهو يدرك ذلك. لكن غياب فريضة قبول ثقافة الاعتذار، وغياب فقه الأولويات عند كثير من النخب، جعل من فعلة حمدين صباحي الحميدة – في تصوري – مناسبةً تؤكد أننا ما زلنا ندمن إعادة إنتاج أخطائنا، وما زلنا نعلي قيمة أن نظل قابعين في الخنادق الفكرية والسياسية، لا نطلّ على غيرنا ولو من ثقب باب أو فتحة شباك!
أكّد كثير منا، في ردود فعلهم، أننا ما زلنا نحتقر فكرة تعظيم المشترك، ولا نعرف إلا أن ما يجمعنا هو الخلافات الصفرية التي نمارسها في الفضاء الواسع بديلًا عن الفعل الحقيقي.
وأذكر أنه عندما قام الدكتور أسامة الغزالي حرب بالاعتذار عن موقفه الداعم للتطبيع مع الكيان الصهيوني، بعد أن شاهد جرائم حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل في غزة، قامت الدنيا عليه غير قابلة لتوبته. وكتبت وقتها – وأنا الذي اختلفت معه بحدّة لسنوات -: “بدون فلسفة أو تأويل، أحيي هذا الموقف الشجاع للدكتور أسامة، لأن ثقافة الاعتذار نادرة في قاموسنا، خاصة بين المثقفين من المصريين والعرب، كما أن ثقافة قبول الاعتذار عندنا يشوبها التشويش والمزايدة”.
بنيت موقفي من الغزالي بتحية اعتذاره باعتباره قيمة فكرية، حتى لو اختلفت معه، وكذلك أولوية ترحيبي بوجوده في خندق الرافضين للتطبيع. حمدين صباحي، الذي خاض معارك ضد الكيان الصهيوني، والذي طالما انحاز للفقراء، وهم الأغلبية من أبناء شعبه، والذي تم اعتقاله والتنكيل به لأنه دافع عن الفلاحين في قضية الإصلاح الزراعي، وغير ذلك الكثير والكثير، كان الأشجع في إعلان مراجعة بعض مواقفه. ولكنه، بحكم مكانته وتأثيره بل وتكوينه، فعلها وهو يعلم تأثيرها وردود أفعالها. وبحكم معرفتي الطويلة به، لم تكن هذه هي المرة الأولى في مراجعات قام بها، ولكن تظل هذه المرة هي الأهم والأشجع، لأنها كشفت كثيرًا من عوراتنا!