خرج علينا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتصريحات متنوعة تحمل في طياتها الكثير من العنجهية والعجرفة، فتحدث عن الاستيلاء على غزة، وقناة بنما، وجرينلاند، وفرض الجمارك على المكسيك، وأخرى على كندا والصين .

لكن دعونا نضع الأمور في سياقها الصحيح، يتعامل ترامب بمنطقين في السياسة: أحدهما القوة والقدرة على فرض الاتجاه بالترهيب تارة وبالتفاوض تارة أخرى، فهو ليس شخصًا سياسيًا تقليديًا، ولا يرى أن الهيمنة الأمريكية على العالم جاءت من خلال شعارات حول الحرية والديمقراطية أو حتى من خلال البحث العلمي.

ربما ينظر إلى الأمور من منطلق المنتصر في الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، فمن جهة، يرى نفسه صاحب السلاح الأقوى، ومن جهة أخرى، يتصرف كتاجر يستطيع شراء أي شيء بالمال، وإن فشل المال، يتحول إلى رجل مافيا يهدد باستخدام السلاح.

لكن السؤال الأهم اليوم هل يسعى لتحقيق كل ما يقول؟ لا أظن ذلك في كل تحركاته، يسعى الرجل إلى رفع سقف المطالب إلى أقصى حد ممكن.

في فترة حكمه الأولى، دار الكثير من الحديث حول “صفقة القرن” والرفض العربي لها، لكن في النهاية، تحولت الأمور إلى “اتفاق إبراهام”، ونُقلت السفارة الأمريكية إلى القدس، وتم الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل، وربما كان هذا هو ما يأمل فيه من البداية ويراه مكسبًا ضخمًا له، لكنه رفع السقف لأقصى حد ممكن حتى يحصل على ربح في النهاية.

وفي تعامله مع إيران خلال فترته الرئاسية الأولى، اتبع سياسة “الضغط الأقصى”، فانسحب من الاتفاق النووي الإيراني وحاصرها اقتصاديًا، وهو ما عاد إلى تكراره مرة أخرى بعد وصوله إلى الحكم، أملًا في أن يصل بإيران إلى اتفاق يرضيه.

لم تكن إيران والشرق الأوسط وحدهما من نالا نصيبهما من سياسات رجل الأعمال الذي يدير العالم، فقد كان لجارتيه كندا والمكسيك نصيبهما من الضغط للوصول إلى أهدافه، فقد بدأ بفرض رسوم جمركية ضخمة، لكن مع موافقة المكسيك وكندا على مكافحة المخدرات وضبط الحدود والجلوس للتفاوض، قرر تجميد القرار لمدة شهر حتى الوصول إلى اتفاق.

وعلى الجانب الأوروبي، اتخذ موقفًا مشابهًا، فطرح فكرة الجمارك كآلية للضغط، واستخدم نسب المشاركة في الانفاق الدفاعي في “الناتو” لإجبار الأوروبيين على الرضوخ لمطالبه، أما في الجانب الآخر من الكوكب، فقد بدأ حربًا تجارية مع الصين.

كذلك نالت بانما نصيبها من التصريحات حول الاستيلاء على القناة ليصل عقب ذلك لوعود واتفاقات ترضيه.

وبعد ذلك، انتقل إلى الصراع الروسي-الأوكراني، حيث هدد الاقتصاد الروسي تارة، وضغط على أوكرانيا للدخول في مفاوضات لا تحقق آمالها، بينما يضمن لنفسه أرباحًا مقابل ما قدمه من أسلحة لأوكرانيا، عبر طلب المعادن النادرة منها.

العالم يواجه أزمة غير مسبوقة، فترامب يتعامل بعقلية رجل الأعمال حتى مع الأمم المتحدة ومنظماتها، وربما حتى في إدارة بلاده داخليًا، فهو يرى كل شيء كصفقة، ويسعى إلى رفع سقف المطالب لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب.

الحقيقة المرة هي أنه لا يمكن لأحد التنبؤ بما يريده هذا الرجل أو بفحوى تصريحاته المتعجرفة، ولا مخرج من السنوات الأربع القادمة إلا بتشكيل تحالفات جديدة تضمن الأمن الاقتصادي والعسكري لدول العالم في ظل تحركاته.

بدأ الاتحاد الأوروبي يبحث عن حلول جماعية لتخفيف ضغطه ولخفض سقف التفاوض، والصين بدورها بدأت تبحث ردود اقتصادية قد تضرها على المدى القصير، لكنها تضمن لها سقف تفاوض أفضل على المدى الطويل.

أما في الصراع الروسي-الأوكراني، فقد بدأت روسيا في مغازلته لإرضاء غروره، إذ إنه لا يسعى إلى مكاسب مباشرة منها، بقدر ما يريد أن يثبت أنه صاحب اليد العليا والقادر على إنهاء الحرب.

وعلى الصعيد العربي، فما زلنا نعاني من تباعد المصالح وغياب استراتيجية موحدة تضمن مرور السنوات الأربع القادمة دون كوارث، فترامب يسعى إلى الصفقات، وإلى المال الخليجي، وإلى السيطرة على “طريق التوابل” الذي يتقاطع بشكل مباشر مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وهو يبحث عن حلول حتى لو كان ذلك على حساب أطراف يعتبرها صديقة بالنسبة له، الصفقات مجرد مفاضلة بين الأرباح والخسائر، ولن يكون هناك مخرج إلا بتحميله خسائر تفوق الأرباح المتوقعة من هذه الصفقات، وإلا فلن يجدي أي شيء نفعًا.

. .pc9x